vendredi 25 avril 2008

الاستبداد

لم يأتنا الاستبداد من كوكب آخر, كما انه لم يكن مجرد ضيف عابر علينا... لقد نشأ نتيجة لظروف معقدة و تداخلات تأريخية و وجد تربة خصبة من التحالفات التي وفرت له النمو و الحماية ،ربما كان أهمها تطويع بعض النصوص القرآنية و النبوية و إخراجها من سياقها من أجل إيجاد شرعية للاستبداد و تطلب الأمر أحيانا اختراع نصوص أخرى من اجل تكريس المزيد من الاستبداد , وكل ذلك تراكم مع الفتاوى التبريرية و ضرب طوقاً من الحصانة و القداسة على مفهوم الاستبداد برمته
.وهكذا فان الاستبداد ليس مجرد علاقة بين طرفين ( حاكم و محكوم ) , بل هو منظومة ثقافية كاملة - شروط الاستبداد لا تغمر طرفاً واحدا فيها بل تغمر الجميع : حكاماً و محكومين .. إنها معادلة اجتماعية كاملة, الإطاحة بطرف واحد لن ينهي الاستبداد بل سيغير من شكله فقط، و سيفرز أشكالا و أنماطا جديدة منه.كذلك فان الديمقراطية لم تأت الى أوربا من كوكب آخر و لم يستيقظ البريطانيون (أصحاب اعرق ديمقراطية حديثة في أوروبا) فجأة في (1969م) ليقوموا بأول اقتراع شارك فيه كل المواطنين" ذكورا و إناثا" فوق سن أل 18, بل استغرق الأمر أكثر من ستة قرون منذ أول تصويت شارك فيه كبار ملاك الأراضي فقط لينتخبوا أول برلمان في(1265 م) و زاد عددهم بالتدريج خلال القرون الستة بتقليل مساحات الأراضي المطلوبة للمشاركة في التصويت ، لم يتمكن ذكر بالغ في بريطانيا لا يمتلك قطعة ارض من المشاركة في التصويت إلا في عام 1918- أما المرأة بنفس العمر فقد انتظرت خمسة عقود أخرى إلى أن تمكنت من ذلك، أي إلى أن وصل الأمر للاقتراع العام بمفهومه الحالي...
هذه القرون الطويلة أنشأت مفاهيم و مؤسسات, و كونت منظومة ثقافية واضحة المرجعية , أنتجت ذلك الفرد الذي ذهب ليشارك في أول اقتراع عام ..فرد استغرق تكوينه أكثر من ستة قرون.التصور إن "الفرد" الذي تكون عبر قرون الانحطاط و السلبية و تقديس الاستبداد ، يمكن أن يتغير ليصير فردا آخرا بمجرد وقوفه إمام صندوق الاقتراع ، هو تصور سطحي ، يعتمد على إمكانية استنساخ نتائج التفاعل و نقلها دون شروطه و معادلته الأصلية, و الحديث الجاري عن توافق الإسلام و الديمقراطية الذي يصل عند البعض إلى حد "إن الإسلام هو الديمقراطية" لا يملك من الحقيقة أكثر مما تملكه الشعارات البراقة ، ليس لأن الديمقراطية تتعارض – أو لا تتعارض- مع الإسلام ، و لكن لأن الخوض في هذا كله يجب أن تسبقه مراجعة حقيقية لأسباب الاستبداد و جذوره العميقة التي تمتلك طوقا من الحصانة و القداسة يجعل مراجعتها يشبه التنقيب و الحفر في حقل من الألغام .
من السهل طبعا القول إن الإسلام ضد الاستبداد و " متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"- و ذلك صحيح لكن لا علاقة له بالديمقراطية طبعا - الأهم من هذا هو مراجعة أقوال و فتاوى أخرى تكرس و تبرر الاستبداد ، غض النظر عن هذه الأقوال و عن مرجعيتها لن ينفي وجودها و إمكانية استنفارها في أي وقت طالما بقيت كامنة في العقل الجمعي.و الحقيقة هي إن الديمقراطية في هذا السياق صارت تبدو كما لو أنها " هدفاً " بحد ذاته و ليست " وسيلة ". وقد عملت وسائل الإعلام على الترويج للديمقراطية بهذا الشكل و إسباغ صفات القداسة عليها , و اختزال نجاحات الحضارة الغربية و ازدهارها بربطها بالديمقراطية و رغم إن هذا كله بعيد عن العلمية و الموضوعية فالديمقراطية فصل من فصول التجربة الغربية و ليست فصلها الأوحد , و قد سبقتها فصول أهم مثل النهضة و التنوير و الإصلاح الديني و كلها أسهمت بطريقة أو أخرى في تعبيد الطريق لفرد يكون مؤهلاً لخوض تجربة الديمقراطية و كذلك فأن الترويج للديمقراطية يلغي أنها قد تؤدي أحيانا لنتائج كارثية , كما حدث عندما أفرزت هتلر ( و آخرين من مشعلي الحروب الحاليين أيضاً وصلوا عن طريق الديمقراطية ) . كما إن الديمقراطية لم تنجح دوما في تحقيق الازدهار الاقتصادي على الأقل عندما طبقت خارج سياقها الحضاري , فاكبر ديمقراطية في العالم ( الهند ) لم تنجح في القضاء على الفقر فيها بينما نجحت الصين ( ذات الحكم الشمولي البعيد عن الديمقراطية ) في أن تحقق قفزة اقتصادية هي الأهم و الأكبر في الاقتصاد العالمي .ليس هذا طبعاً ترويجاً للاستبداد , فليس هناك ما هو أبغض منه إلا ذلك التصور انه لا بديل عنه سوى "النقل الحرفي" للنتائج الأخيرة لتجارب الآخرين وهو نقل ينفي وجود اختلافات في طبيعة المجتمع , ليس اقلها وجود اختلاف كبير في نسب التعليم و الأمية , الأمر الذي سيفرز طبقة واسعة من الناخبين الأميين أو قليلي التعليم الذين يسهل جرهم الى صندوق الاقتراع لهذه الجهة أو تلك وسط نزعات و واجهات انتخابية تستفز العقل- أو اللاعقل؟- (الطائفي أو العشائري أو العرقي) و سينتج عن ذلك كله تهميش للطبقة الأكثر وعياً , الطبقة الوسطى -" الهشة " أصلاً في مجتمعاتنا -التي ستجد نفسها في موقف لا تحسد عليه , و ستترحم على مكاسبها النسبية " الضئيلة أيضا " أيام الاستبداد و هو أمر كان يمكن تداركه ليس عبر الإبقاء على الاستبداد و لكن عبر إحداث تغيير في آليات الانتخاب بطريقة تضع الاعتبارات السابقة في الحسبان أكثر مما تضع الحرفية في النقل كاعتبار ...
" و النقل الحرفي " للآليات الديمقراطية , يتجاوز حقيقةً إن الفرد عندنا , الذي هو النتاج الأخير لثقافة سلبية نتجت في عصور الانحطاط , سيتفاعل هو و مفاهيمه مع صندوق الاقتراع بطريقة مختلفة تماما عن فرد "النسق الحضاري الغربي" فمن السهل ، على سبيل المثال، أن يتم إقناع هذا الفرد بان ينتخب من اجل الفوز بالآخرة و ليس من اجل الوصول الى حكومة تقدم " دنيا أفضل " و هذا أمر اخطر مما قد يبدو للوهلة الأولى ، فحكومة انتخبتها من اجل الآخرة لن تتمكن من محاسبتها على إنها لم تقدم لك " دنيا أفضل " , كما إن فشلاً لهذه الحكومة قد يفسر بنفس الآلية على انه "ابتلاء و امتحان من الله عز و جل" ،و هو أمر سيجعلنا ندور في حلقة مفاهيم مفرغة لن تخترق بدورة أو دورتين يؤدي فيها الفشل إلى إعادة لتقييم المفاهيم السلبية , فهذه المفاهيم تكونت عبر القرون و هي محصنة " ظلماً " بتأويلات معينة للنصوص الدينية , و الوقت وحده-مهما طال- لن يكون كفيلا بحلها و إزالتها....

1 commentaire:

Tarek طارق a dit…

تونسي 007 تدوينة جيدة... كنت كتبت مقال يتحدث في الأساس في نفس الإتجاه و لو أنو ربما أطول و عندو نوعا ما طابع أكاديمي... هاو رابط للمقال
http://www.middle-east-online.com/?id=52912

بالمناسبة المقال كان في الأصل مسودة في شكل تدوينة في إطار يوم تدويني قامو بيه المدونين التوانسة في 1 جويلية حول حرية التعبير... و تلقيت وقتها بعض التعليقات إلي حست أنو من العار الحديث بالشاكلة هذيكة على الديمقراطية.. و طبعا فمة شكون حتى اتهمني بتبرير الدكتاتورية...

نحنا فعلا في حاجة في تونس لتنسيب المسألة الديمقراطية و الخروج بها من الخطاب الاحتفالي و الدعائي إلي يتميزو بيه أغلبية المتحدثين عليها